خالصة بنت ناصر الرحبية
نام محمد و ودّع أحلامه الوردية، آملاً أن يشرق عليه صباح أول يوم من عامه الدراسي الجديد و هو يرفل بثوب الأماني المنتظر تحقيقها، أمسى و هو يتخيّل نفسه ذاك الطيّار الذي يحلّق فوق الأراضي الخضراء الواسعة.
تفاءلَ بأن كل الصعوبات التي ستكون عائقًا أمامه ستهون من أجل ذاك الهدف الذي رسمه أمام مخيلته وبات يشغل فكره البريء. كيف لا !! و والديهِ سخّروا كل طاقاتهم وإمكانياتهم ليروا ابنهم في القمة، وليفخروا به عند الجميع، ويكون سندهم و عونهم عند كبرهم، وليتباهوا بعطائهم وتربيتهم لابنهم الناجح، بذلوا الغالي والنفيس ليكون محمد غير متفردًا مع أقرانه.
وزّعت الشمس خيوطها الذهبية ، وقبلّت الأم رأسه بقبلة وداع صغيرة، آملةً أن تراه بعد ست ساعات على الأقل. وأبو محمد يجهز طفله و يوصيه بأن ينتبه على نفسه، و لا يكاد محمد يغادر الباب إلا ووصايا والديه لا تكاد تنتهي. ببراءة خطوات محمد، و خياله البريء لا يكاد يصغي لهم بتمعّن. يقضي محمد يومه الدراسي بمتعة ولقاء شيق مع أصحابه، وحلمه أن يصبح طيّاراً لا يكاد يغيب عن طيفه لحظة. أعلن اليوم انتهاء ساعاته، ومحمد يجر حقيبته المليئة بالكتب والهمّة العالية لبدء مرحلة جديدة، فلا تكاد قدماه تلمس أرضيّة الحافلة وإلا بسائق الحافلة يدهسه.
محمد يلفظ أنفاسه الأخيرة ، دهسه دونما انتباه أو تفقد الوضع من خلف الحافلة ، فما هي إلا دقائق ويغادر محمد وحلمه وهمّته وطفولته البريئة أرض الواقع، غادر محمد الحياة وغادرت معه آماله، ينتظراه والداه بشغف ليحكي لهم يومه الدراسي وتجهز أمه سُفرة الغداء لأنها تعلم بان محمد بذل جهداً وهو محتاجًا للطعام.
ما هي إلا سويعات. والأب والأم يحملان بين يديهم كفن طفل دفنوا معه طموحهم وحلمهم العظيم بأن محمد سيكون الطيّار الذي سيقلُّ والديه إلى أي مكان يذهب إليه.
ما ذنب محمد أن ساقه القدر تحت عجلة الحافلة، ودهسه السائق بدون انتباه، وما ذنب تلك الطفولة الوردية التي خبأت بين جوانبها أحلاماً عظيمة قادرة على خدمة ورقي أسرته ووطنه؟
من هذا الموقف المؤلم والذي بات أشبه بمسلسل يومي لا تكاد حلقاته تقل عن 30 حلقة يتكرر أمام ناظرينا، حريَ بنا أن نتخذ تدابير صارمة نحو كل الجهات المسؤولة عن غياب مثل تلك الأرواح البريئة الصغيرة البنّاءة للمجتمع صاحبة التغيير والأمل الواعد.
نداء من هذا المنبر وبصوتٍ عالٍ إلى الآباء والأمهات لأنهم الأساس في توعية أبنائهم بضرورة أخذ الحيطة والحذر والانتباه على أبنائهم وتوصيتهم بالانتباه على أنفسهم.
ومن الآباء من يصرخ بصوت يتخلله الألم و الحسرة على فراق فلذات أكبادهم بأنهم قد حذّروا وانتبهوا على أولادهم و لكن بات الخطأ من غيرهم، لكن من هنا نقول بأن توزّع المسؤولية على الأسرة و المدرسة والمجتمع وسائقي الحافلات.
فلو باتت التوعية المدرسية بمخاطر الشوارع والحافلات و تزايد أعداد الطلبة الضحايا لمشاكل و حوادث السير لما تكرر هذا الحال إلى الآن معنا. و مسئولية المدرسة كبيرة في غرس وتوطيد مفاهيم راسخة عن السلامة المرورية كي تنشأ جيلاً مثقفاً قادر على تجنب هذه المشكلة. و لو أنها رسخت مفهوم السلامة المرورية بتطبيق عملي لكانت النتائج المرجوة أفضل لأن الطفل يكتسب المعلومة وهي مطبّقة على أرض الواقع أكثر من كونها تلقين .. بات التلقين في حياتنا ينتج آثاره السلبية علينا.. باتت قضية خسران فلذات أكبادنا بهذه الطريقة مسألة منسية، فعالجنا طرف ونسينا باقي الأطراف.. هنا اليد الواحدة لا تكاد تصفق…فتكاتف كل الجهود هو الحل الأمثل لتجنب هذه المأساة.. تجنباً لسلب الحوادث المرورية لبراءة أطفالنا…
أيها الوالد و أيتها الأم ، أنتم الجهة الأولى والأخيرة لتتجنبوا خسران شموع حياتكم، فكثيراً ما يتسبب الأولياء في حصد أرواح فلذات أكبادهم على مستوى الطرقات، حيث يضعون أطفالهم الصغار في المقاعد الأمامية للمركبة دون إدراك خطورة ذلك. وأيضاً يجب تثقيف الأبناء بأهمية حزام الأمان و أن المكان المناسب لهم هو المقعد الخلفي، وأن صاحب المكانة الاجتماعية أو الأكبر في العائلة هو من يستحق هذا المقعد حفاظاً على سلامتهم. قد تقول بعض الأسر أنها ملتزمة بما ذكرناه سابقاً إلا أنه يبقى الخطأ يصدر من جهة أخرى نغفل عنها و لا ندري بها إلا من أن تظهر عواقبها علينا، ففي حادث مرور مؤلم لرضيع فارق الحياة رغم أنه كان بين أحضان والدته وفي المقعد الخلفي، والسبب يرجع إلى الوالد الذي اجتاز منعطفا خطيرا بسرعة كبيرة، مما جعل الأم تفقد السيطرة على رضيعها الذي خرج من نافذة السيارة التي كانت مفتوحة وفارق الحياة في الحال. لذا يجب تضافر كل الجهود من قبل الآباء و الأمهات للحفاظ على سلامة أبنائهم.
وبما أن أعداد ضحايا الطفولة والبراءة زادت فكان لا بد لنا أن نسلط الضوء على سائقي حافلات المدارس، فهم يشكلون شريحة مهمة للحفاظ على سلامة أبناء مجتمعنا الغالي من آفة الحوادث. فاختيار الشخص الأنسب والقادر على تحمل مسئولية أكثر من عشرين روح يومياً تعد مسألة ليست بالسهلة، فكان للجهات المعنية أن تنتبه لاختيار الشخص الكفء الذي يتحمل أمانة تلك الأرواح من خلال تفقده للحافلة، ومتابعة الطلاب والحرص على الجلوس في الأماكن المخصصة لهم، يقول أحد الأخوة مبدياَ رأيه لو يوظف شخص آخر لمتابعة الطلبة مع سائق الحافلة لتتسنى له فرصة الانتباه في القيادة، والآخر يتولى العناية والاهتمام بالطلبة. فعلى الجهات المعنية و المسئولة النظر في هذا الاقتراح؛ لأن تولي أكثر من مسئولية في آنٍ واحد تبدي نتائج سلبية دوماً.
أيها القارئ لحروفي/ إحصائية مؤلمة و مقطعة للقلب أن يصل عدد ضحايا الحافلات المدرسية 12 طفل، فبهذا العدد قد نصنع بهم جيلاً رائداً يساهم في تنمية المجتمع. وفي الختام لا اعتراض على قضاء الله و قدره، لكن الله أمرنا بالأخذ بالأسباب و أن لا نلقي بأيدينا و أيدي أحبتنا إلى التهلكة، فمن قتل نفساً واحدة كمن قتل الناس جميعا، فلطفاً ببراعم المجتمع الذين باتوا ضحية مأساوية للحوادث المرور. لكن بقدرة الله و بعونه سنساهم جميعاً و بصوت عالي وبيد واحدة متكاتفة إيقاف لهيب نار الحوادث المرورية و الحد من انتشارها بالتعاون و التكاتف في الالتزام كلاً بمسئوليته و دوره سواء من الآباء أو المدارس أو البيئة أو المجتمع أو سائق الحافلة.
سلّم الله براعم وطننا الغالي، وحفظنا و إياهم من شرور الدروب و آفة الحوادث.