بقلم فضيلة الأستاذ: محمد الموذني
بسم الله الرحمن الرحيم
عناصر الموضوع:
– تكريم الله للإنسان وإنعامه عليه
– وجوب شكر النعم
– حوادث السير والإخلال بالشكر
– أسباب حوادث السير
– قوانين السير تحقق مصالح شرعية
– سبل الحد من الحوادث.
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد الأنبياء والمرسلين، وعلىآله وصحبه أجمعين.
أما بعد
تكريم الله للإنسان وإنعامه عليه
أيها المؤمنون، لقد كرم الله الإنسان تكريما، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا فقال جلوعـلا: ﴿ ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ﴾ (الإسراء 70) فربنا الكريم خلق الإنسان في أحسن تقويم ، وكرم بني آدم بالعقل وبعث فيهم أنبياءه ورسله مبشرين ومنذرين، وسخر لهم ما في البر والبحر والجو ، ورزقهم من الطيبات، وفضلهم على سائر الخلق.
وقد أكرم الله أبناء زماننا بأن فتح عليهم سبحانه فتعلموا من أسرار الكون ما لم يعلمه السابقون،وأغدق عليهم من النعم ما لم يؤتي الأولين. ومن جملة النعم التي سخرها لنا ربنا في هذه الحياة، وفي هذا العصر بصفة خاصة، وسائل النقل الحديثة البرية والبحرية والجوية: من سيارات وقطارات،وغواصات وسفن جاريات، وطائرات… فطويت لإنسان اليوم الأرض طيا، وأضحت له الأجواء بفضل الله ميدانا رحبا، فتحقق لنا ما وعد به ربنا في كتابه، إذ يقول عز وجل: ﴿ والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تاكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم، والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون ﴾ (النحل 5-8) فقوله تعالى:﴿ ويخلق ما لا تعلمون ﴾ ” في معرض الامتنان بالمركوبات تدل على أن منه ما هو من المركوبات، وقد شوهد ذلك في إنعام الله على عباده بمركوبات لم تكن معلومة وقت نزول الآية: كالطائرات والقطارات والسيارات…” كما ذكر ذلك محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان.
وجوب شكر النعم
فإذا كانت هذه الوسائل من أعظم نعم الله علينا، فالواجب على المؤمن شكر الله عز وجل عليها، فذلكم هو سبيل المحافظة عليها ومباركة الله لها، قال الله تعالى:﴿ وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ﴾ ابراهيم (7)
في تفسير الإمام الطبري رحمه الله قال قتادة في قوله:﴿وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم﴾ قال:”حق على الله أن يعطي من سأله ويزيد من شكره ، والله منعم يحب الشاكرين فاشكروا الله نعمه”. فالشكر يحفظ النعم من الزوال ويديمها ويأتي بنعم أخرى و يزيدها، جعلنا الله من عباده الشاكرين. لكن ما معنى الشكر ؟ وكيف نكون من الشاكرين؟
إن الشكر على النعم يتحقق بالاعتراف بها باطنا، والتحدث بها ظاهرا، وتصريفها في مرضاة وليها ومعطيها ومسديها ثالثا. فالشكر نوعان: شكر اللسان يتمثل في حمد الله وشكره على نعمه وآلائه، وشكر الحال ويتمثل في تصريف النعمة وتوظيفها كما يحب المنعم عز وجل.
حوادث السير والإخلال بالشكر
فهل يتحقق شكر الناس لربهم على ما أنعم به عليهم من وسائل النقل وأنواع المركبات المختلفة؟ للأسف هناك تصرفات كثيرة لا يرضاها الله تعالى تتسبب في إزهاق أرواح بريئة تصل إلى أربعة آلاف قتيل سنويا في المغرب فضلا عن الجرحى والمصابين بالإعاقات المختلفة ، لقد تزايدت حوادث السير وتكاثرت بشكل رهيب حتى سميت بحرب الطرق، لما يترتب عليها من الآفات، وما يحدث عنها من العاهات، وما تحصده من الأرواح كل يوم وكل ساعة وكل لحظة.وهذا منكر عظيم وفساد كبير لا يقبله الدين، ولا يرضي رب العالمين ﴿والله لا يحب الفساد) البقرة (203)
أسباب حوادث السير
وأسباب هذه الكوارث، أيها الإخوة ترجع إلى الإنسان أساسا، قال جل جلاله: ﴿ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون﴾( الروم:41)، فمنها ما يرجع إلى السائقين ,منها ما يرجع إلى الراجلين، ومنها ما يرجع إلى الطرقات.
فبالنسبة للسائقين: هناك من يسخر سيارته أو مركبته في معصية الله ، ومعاقرة الخمور والمخدرات، ويسعى بها في الفساد، وكثيرا ما يتخذها بعض الشباب خصوصا للهو والعبث والتسكع..
وهناك من لا يبالي بالإخلال بقانون السير فيسوق سيارته بسرعة مفرطة ولا يكترث بالإشارات ولا يهتم بحالة سيارته الميكانيكية وغيرها ، وبعض سائقي الدراجات النارية أوالعادية يسير في ممرات الراجلين وساحاتهم المخصصة لهم، فيتسبب في إصابتهم ويلحق الأذى بهم.
وبالنسبة للراجلين : فأكثر الحوادث تنشأ عن عدم إعطاء الطريق حقه، حيث يلاحظ كثيرا عدم استعمال الرصيف والممرات الخاصة بالراجلين، ونجد من يلعبون وسط الطريق، ومن يعبرون الطريق بلا مبالاة وأثناء اشتعال الضوء الأخضر، وقد تنشأ الحوادث عن سوء تقدير الراجلين لمسافة توقف السيارات، أو بسبب عدم ظهورهم في ظلمة الليل لسائقي السيارات خارج المناطق الحضرية …
وأما بالنسبة للطرقات، فمن المؤسف أن يكون الطابع الغالب على مجتمعنا في مختلف مناحيه الغش وعدم الإتقان مما ينعكس على طرقنا بالضعف وعدم التحمل مما يسبب حوادث كثيرة…
وعموما فعدم احترام قانون السير وعدم تطبيق قواعده وعلاماته، وتهور مستعملي الطريق من السائقين والراجلين، هي أهم الأسباب التي تؤدي إلى حوادث السير، وهي حوادث لا تقتصر خسائرها على الجروح والخسائر المادية، بل تتعدى ذلك إلى خسائر في الأرواح ، ومن قتل نفسا بغير حق فكأنما قتل الناس جميعا وما أكبره من جرم! وما أعظمه من ذنب!
الخطبة الثانية
قوانين السير تحقق مصالح شرعية
إن المقصد العام للشريعة الإسلامية هو جلب المصالح للعباد ودرء المفاسد عنهم في العاجل والآجل، فهي كما يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله :”مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه”. وهذا ما تمت صياغته في القاعدة العامة الشهيرة “حيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله”، ولكن لا ينبغي إغفال الحقيقة المقابلة وهي حيثما كان شرع الله فثم المصلحة. ويحدد العلماء خمس مصالح جامعة، يصطلح عليها بالكليات الخمس الكبرى وهي: حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ العقل وحفظ النسل وحفظ المال.
وعموما فالشريعة تضمنت كل ما فيه الخير والمصلحة، لكن قد يحدث أن تستجد بعض المصالح مما لم يكن منصوصا عليه في كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، فهذا باب جديد لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في قيام الصحابة رضوان الله عليهمأجمعين في عهد أبي بكر الصديق بجمع القرآن بعد مقتل أهل اليمامة، فهذا عمل لم ينقل فيه خلاف عن الصحابة ومستنده المصلحة (حفظ الدين)، ومن أعمال الصحابة الأخرى المنبنية على أصل المصلحة تدوين الدواوين واتخاذ السجن وغيرهما.. ليتضح مما سبق أن كل مصلحة أو منفعة توافق مقاصد الشارع يمكن الأخذ بها وإن لم يكن لها شاهد بالاعتبار، وبعبارة أخرى، متى ظهرت مصلحة حقيقية غير منصوص عليها وغير معارضة للنصوص الأخرى ، ووجدناها تلائم تصرفات الشارع ولا تناقض أصوله فيمكن مراعاتها والعمل بها.
واستنادا لهذا الأصل يمكن سن بعض التشريعات وإحداث بعض التنظيمات الإنسانية القائمة على جلب المصالح ودرء المفاسد، واعتبارها من الخير الذي أمر الله عباده المؤمنين بفعله في قوله سبحانه:﴿ يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون ﴾ الحج (75)
وبفعل التطور الحاصل في بنية المدن والتجمعات السكنية ووسائل النقل المختلفة، فقد اقتضت المصلحة وضع تقنينات تنظم السير في الطرقات، وترشد إلى كيفية استعمالها، من أجل الحفاظ على الأرواح والسلامة من الحوادث، وهي التي يصطلح عليها بقانون السير: هذا القانون الذي يقوم على مراعاة بعض الضوابط والمحددات كحمولة السيارات والعربات المختلفة، والمراقبةالتقنية لها، واحترام العلامات الطرقية التي هي من وضع لجنة من الخبراء، اختبروا الطريق ومنعرجاتها ومنخفضاتها ومرتفعاتها،وازدحامها وشساعتها، ومواطن مرور الراجلين، وأسواق الناس، ومدارس التلاميذ.. فحددوا لكل مسار ما يناسبه من العلامات التي تنظم السير فيه.
فهذا القانون مصلحة في مضمونه ومنفعة في تجلياته، لكننا للأسف نستشعره قانونا غريبا مستوردا أكثر من استشعارنا لوجه المصلحة فيه. إنه قانون يهدف إلى الحفاظ على النفوس والأرواح التي تمثل واحدة من الكليات الخمس الكبرى، ويقصد إلى تحقيق مصالح كلية لا تناقض مقاصد الشريعة وأصولها، ومن ثم يجب الأخذ به ومراعاته لما فيه من الخير والنفع باعتباره قانونا شرعيا لا يختلف عن التشريعات الإسلامية الأخرى، إذ من شأن الملتزم به أن ينال الأجر والثواب، وكل إخلال به يعرض صاحبه للإثم والعقاب بالإضافة إلى المؤاخذة القانونية والغرامات المالية المقررة، ولهذا ينبغي الالتزام به واحترامه كما يحترم المسلم المقررات الشرعية الأخرى.
سبل الحد من الحوادث
مما لا شك فيه أنه لو احترمت قوانين السير وامتاز الناس بالروية والاتزان، وصانوا مركوبهم ووسائل تنقلهم، لقلت هذه الحوادث وتقلص حجم مخاطرها وهول مصائبها. لهذا ينبغي لكل مستعمل للطريق أن يعلم أنه مسؤول عن أفعاله وتصرفاته أمام الله أولا وأمام المجتمع ثانيا ، وسيحاسب على ذلك عند لقاء ربه، مصداقا لقوله عز وجل:﴿ولتسئلن عما كنتم تعملـــــــــون ﴾ (النحل:93)، ومن أخل بمسؤوليته وقصر في واجباته فإنه مشارك في إزهاق الأرواح البريئة وجرمه عند الله عظيم!
فما أحوجنا إلى استشعار هذا الأمر حتى نغير سلوكنا ونحسن تصرفنا، ونحترم حق الحياة لكل الناس، ولا نعتدي على حقوق الآخرين ولا نؤذيهم ، فمن آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم، كما في الحديث. فالطريق ملك عام مشترك بين الناس، فلا نتصرف فيه بالأثرة والأنانية، بل نتسامح ويتنازل بعضنا للبعض من باب أخلاق الإسلام وآدابه التي تجعل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم جسدا واحدا كما في الحديث الصحيح.
لهذا لابد من معرفة حقوق الطريق والالتزام بقوانين السير وضوابطه،كاحترام إشارات المرور وتحديد السرعة وحق الأسبقية،والتأني في السياقة،وصيانة الوسيلة المستعملة..ولنتواصى بذلك ونربي الصغار عليه لينشأ الجيل الصاعد عارفا بقواعد السير في الطرقات محترما لقوانين استعمال الطريق.
وصفوة القول، إن الالتزام بقوانين السير واجب ديني واجتماعي في نفس الوقت، وهو السبيل إلى صيانة النفوس والأرواح من آفات الطريق وأضرارها المؤلمة، وتحقيق السلامة المنشودة.ومن خالف ذلك ولم يراع تلك القواعد المنظمة للسير في الطرقات فهو عاص لربه، متعد على حق أخيه ظالم له، يعرض نفسه لغضب الله وعقابه قبل استحقاق العقوبات القانونية والغرامات المقررة. فلا ننس رقابة الله ولا نلقي بأنفسنا إلى التهلكة ﴿ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين﴾ البقرة (194).
والله الموفق للخير وهو يهدي السبيل.
منقول : موقع رياض الدعاة