للشيخ : صالح بن عبد العزيز التويجري
هل نتحدث عن الضحايا البشرية، أم الخسائر الأخلاقية، أم الانتكاسات النفسية؟! أربعةُ آلاف ومائتا حالة وفاة، وألف ومائتا إعاقةٍ دائمة، وثمانية آلاف إعاقةٍ مؤقتةٍ سنويًا. لقد ازدادت الحوادث المروية في المملكة خلال عشر سنوات فقط بنسبة أربعمائة بالمائة، وخلال ثلاث وعشرين سنة بلغ عدد المصابين في حوادث المرور بالمملكة أكثرَ من نصف مليون مصاب، توفي منهم ستون ألفَ إنسان. ظاهرة التفحيط ظاهرة مرعبة؛ لكنها عند كثير من الشباب مجرد لعبة، ولكنها لعبة الموت ..
عباد الله: كانت التحولات الاجتماعية بطيئة الإيقاع عصية الانقطاع، وما هي إلا لحظات غفلة عقلاء وسطوة شهوة سفهاء حتى نما فيها الورم الخبيث وتسرطن الدماغ، فشلت القوى العقلية عن تدبير العضلات أو غرق الرقيب في بحر شلة، فتولى سرحان رعي القطيع يعصف بها في أودية الهلاك أو كهوف الزواحف أو مستنقعات النتن. جاء الامتحان وهو موسم لذكريات مزعجة: شلل، بداية تجربة في المخدرات، الوقوع تحت عبث الوغدنة وسمسرة الفاحشة، ومسلسل الهبوط أسرع من سلّم الصعود، فيا وَيح من بِناؤه هش أو لأسرته غشّ.
التفحيط والسرعة الزائدة وقطع الإشارة ضمن ثلاثة من أخطر المخالفات المرورية التي تؤدّي إلى خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات، ونظرًا لخطورته حرّمته اللجنة الدائمة.
عباد الله: عماذا نتحدث؟! هل نتحدث عن الضحايا البشرية، أم الخسائر الأخلاقية، أم الانتكاسات النفسية؟! أربعةُ آلاف ومائتا حالة وفاة، وألف ومائتا إعاقةٍ دائمة، وثمانية آلاف إعاقةٍ مؤقتةٍ سنويًا. لقد ازدادت الحوادث المروية في المملكة خلال عشر سنوات فقط بنسبة أربعمائة بالمائة، وخلال ثلاث وعشرين سنة بلغ عدد المصابين في حوادث المرور بالمملكة أكثرَ من نصف مليون مصاب، توفي منهم ستون ألفَ إنسان. ظاهرة التفحيط ظاهرة مرعبة؛ لكنها عند كثير من الشباب مجرد لعبة، ولكنها لعبة الموت.
هذا التزامن بين الامتحان وظواهر الخلَل السلوكي غاية في التناقض بين العلم والعمل، فالطالب في ذروة التواصل مع المادة العلمية، وبالمقابل في ذروة الفوضى والعبثية، فمن المسؤول؟!
المادة العلمية المكثفة في الجوانب الأخلاقية والتي يتلقاها أبناؤنا أين تأثيرها؟! وإلى متى ستبقى مظاهر الغش في الامتحانات والهيشات في انصراف الطلاب والإخلال بحقوق المارة؟! والطالب لا زال للتّو قد أمضى ساعات في صرح من صروح العلم والمعرفة، والذي كان يرجى أن يُرى منه أدب العلم والتعلم ظاهرًا على سلوكه وتعامله وكلامه وتصرفاته.
عباد الله: التفحيط شكل من أشكال إيذاء الناس غير المبرّر، ودلالة على عدم الاكتراث بسلامة وممتلكات الآخرين، ومناف لما جاءت به الشريعة، فعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه”. متفق عليه. وعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: سألت النبي –صلى الله عليه وسلم-: أي العمل أفضل؟! قال: “إيمان بالله وجهاد في سبيله”، قلت: فأي الرقاب أفضل؟! قال: “أغلاها ثمنًا وأنفسها عند أهلها”، قلت: فإن لم أفعل؟! قال: “تعين صانعًا أو تصنع لأخرق”، قلت: فإن لم أفعل؟! قال: “تدع الناس من الشر؛ فإنها صدقة تصدق بها على نفسك”.
مرحلة المراهقة وبداية الشباب مرحلة تتميز بالميول النفسية تجاه ترسيخ الهوية وإثبات الذات، وفي هذا السبيل يلجأ المراهق إلى وسائل عديدة تتضمن المغامرة وركوب المخاطر ومواجهة الصعاب؛ ليثبت للآخرين أنه الأقوى والأفضل والأحسن. حب الظهور والشهرة والفراغ ومحاكاة رفقة السوء والتحدي الذي يقع بين الشباب وضعف رقابة الأسرة وأثر وسائل الإعلام والألعاب الإلكترونية كأفلام المطاردات ومسلسلات العنف والترف وعدم تقدير النعم ومحاولة بعض الشباب لفت انتباه الأحداث والمردان واستدراجهم لعلاقات شاذة؛ كل ذلك من أسباب تفاقم هذه الظاهرة الخطرة كما تحكيه الدراسات العلمية. سلوك اللامبالاة أحد أهمّ سمات المفحطين، وكلما انخفض العمر والمستوى التعليمي برزت سلوكيات خطرة تعرض أصحابها والآخرين للمخاطر الشديدة.
التفحيط ليس جرمًا مقتصرًا على صورته، بل مفتاح لجرائم متعددة من قتل الأرواح البريئة وإتلاف وسرقة الأموال المحترمة وترويع الآمنين، وباب من أبواب ارتكاب الأفعال اللا أخلاقية، وأرض خصبة لتهافت الشباب على المسكرات وترويج المخدرات.
عباد الله: من يتولى التجمعات الشبابية بعد الامتحانات حول المدارس وفلولَ الطلاب الذين تأخّر عنهم الأولياء؟! وقد أصبحت هذه التجمعات لا تقل خطرًا عن مشكلة التفحيط؛ إذ هي المغذي الأكبر لجذب المفحطين واستعراض مهاراتهم، وهم الضحية الأولى عند حصول خطأ ما في ميدان التفحيط.
إننا سنظل ننادي: أين الأنظمة؟! ومسؤولية من هذه الشطحات؟! وكيف نحقّق المنظومة الأدبية الأخلاقية في مجتمع نسبة التناغم الاجتماعي فيه عالية؟!
الخسائر البشرية جراء الحوادث من وفيات وإصابات سنويًّا أكبر من خسائر كثير من البلدان التي تجتاحها حروب أو زلازل مدمرة، في حين لا تزال جهود الجهات المختصة محدودة في حصر نطاق هذه الحوادث والتقليل منها.
هناك أخطاء دون أخطاء، فالخطأ المنهجي والنظامي فادحة كبرى لا تجدي معها الصيحات، ودون ذلك الخطأ في التطبيق وفهم النظام، وحتى لا يكون جهادنا تلاومًا فلا بد من تحمّل التبعة ودفع الضريبة لتستقر الكرة في مرمى المفرطين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
عباد الله: وبرغم الجهود المبذولة والمشاركات الإعلامية والتوعوية المشكورة ستظلّ دون حجم المأساة، فإن مشكلة التفحيط لم يعد يكفي فيها حجز المفحّط خمسة أيام والإطلاق بكفالة، أو حجز السيارة أو مصادرتها فحسب؛ بل أصبحت بالحجم الذي يجب على الجهات المعنية أمنيًّا وتربويًّا إعادة النظر فيها وتوسيع الدراسات العلمية حولها بشيء من الإفاضة، والوقوف على الأسباب الحقيقية التي تدفع بعض المراهقين إلى ممارستها، ولا تزال البحوث العلمية عزيزة في هذا الجانب عدا مقالات صحفية أو كتابات على الشبكة العنكبوتية.
من الحلول المقترحة للتخفيف من هذه المشكلة الاجتماعية إضافة بند في مخالفات التفحيط المرورية يشرك آباء أو أولياء أمور القصَّر والمراهقين من المفحّطين في المسؤولية والعقوبة والتغريم عن الأضرار الناتجة عن التفحيط، ومنها تخصيص برامج إذاعية وتلفزيونية وصحفية تعنى بهذه القضية، ومنها إعداد حملة توعوية تحث الآباء وأولياء الأمور -ولا سيما أولئك الذين لديهم مراهقون ممن لديهم سيارات- على مراقبة أبنائهم.
إن عدم وجود البديل المناسب لإبراز مهارات الشباب وحبّهم للمنافسة والظهور يدفعهم لمثل هذا التهوّر، فهل ثمة مانع من إعداد أماكن أو ساحات متخصّصة خارج النطاق العمراني يشرف عليها محترفون متخصصون في رياضة قيادة السيارات على غرار رياضات سباق السيارات؟! وذلك على مسؤولية المنظمين، وربما تحت أنظار إدارة المرور، أو لجان فنية وصحية تتوفّر فيها أسس السلامة والتقنين والتنظيم. وهل تتاح الفرصة للقطاع الخاص بممارسة هذا الدور؟!
ومن الحلول التي تخفّف من هذه المشكلة المطبّات الاصطناعية في المناطق التي لا يوجد فيها رجال الأمن، مع دراسة الأسس الفنية والهندسية لإعداد هذه المطبّات بحيث تعيق المفحطين، ولا تزعج سائقي المركبات العاديين.
عباد الله: وثمة رافد أساسي لتفعيل الأنظمة، فهي لا تكفي وحدها إذا لم نجد استجابة وتفاعلاً من المجتمع كل بحسبه، فأولياء الأمور والجهات ذات العلاقة ولو بشكل جزئي ورجل الشارع يستطيع تأدية دوره، ولكل رافد نصيب في نهر جارٍ من العطاء الأخلاقي للأمّة، فالحياء والمروءة وحسن الخلق وحقوق الآخرين سدّ يحمي الحمى، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “من أخرج من طريق المسلمين شيئًا يؤذيهم كتب الله له به حسنة، ومن كتب له عنده حسنة أدخله بِها الجنة”. رواه الطبراني (32)، وحسنه الألباني.
أيها الأب الحنون: ليس الشأن أن تجد مالاً تحقّق به مرادات أبنائك، ولكن عقلاً ومسؤولية تدبّر بهما شؤون رعيتك.
عباد الله: قد لا نستطيع القوامة بكل أشكالها، أو تكون المسؤولة عن البيت امرأة كما هي حالات أزعجت مخرجاتها المجتمع. عندها من الممكن أن يستعان بعناصر أخرى من الأقارب أو أعيان الحيّ أو الاتصال على أجهزة الدولة لتساعد في الأخذ على يد السفيه.
إن كثيرًا من الأولياء يخلط بين الحبّ والعاطفة والنصح والتربية، فالتربية شغف وإبداع لا عاطفة رخوة أو سوط فاتك؛ بل مناخ ملائم وهمٌّ دائم، تفاعل فكري وحضاري ترتقي بالسلوك وتحصّن من الانفلات. والقسوة قد يحتاجها الأب أحيانًا يدفعها الحب والعطف.
فقسـا ليزدجروا ومن يك حازمًا *** فليقسُ أحيانًا على من يرحم
وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبينا محمد، وعلى آله الأطهار وصحابته الأخيار، اللهم ارزقنا اتّباعه ظاهرًا وباطنًا، اللهم توفنا على ملته، واحشرنا في زمرته، وأدخلنا في شفاعته، واسقنا من حوضه، واجمعنا به في جنات النعيم.
……………………………………..
منقول : ملتقى الخطباء – ركن الخـــطب