للشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
إن نفسك أمانة عندك لا يحل لك إزهاقها، فمن فعل فقد أتى جرمًا عظيمًا ينال عليه في الآخرة عذاب أليمًا إلا أن يتوب الله عليه، ونفس غيرك عليك حرام: “إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا هل بلغت؟! اللهم فاشهد”، أي والله لقد بلّغ ولكن أين من يتعظ ..
أما بعد:
فيا عباد الله: ثلاثة آلاف وسبعمائة وتسعة وثمانون قتيلاً، وواحد وثلاثون ألفًا وثلاثة وثلاثون جريحًا بجراح كثير منهم جراح بالغة، تلكم هي نتائج حوادث السيارات في المملكة في العام الماضي ألف وتسعمائة وخمس وتسعين للميلاد حسب الإحصائية الصادرة من الإدارة العامة للمرور، والتي نشرتها جريدة الشرق الأوسط في اليوم الثامن من شهر رجب من هذا العام، وذكرت الإحصائية أن عدد حوادث السيارات مائة وثلاثة وعشرون ألف حادث، وفي دارسة أخرى نشرتها الجريدة نفسها تذكر أن الحوادث المرورية في المملكة تكلف سنويًّا أكثر من ثمانية عشر ألف مليون ريال شملت الخسائر المادية في الممتلكات العامة والخاصة الناجمة عن الحوادث، وكذلك تكاليف العلاج في المستشفيات والمدة التي يقضيها المصاب في المستشفى؛ حيث كشفت الدوائر أن ثلث أسرة المستشفيات في المملكة مشغولة بمصاب الحوادث المرورية وكذلك الخسائر الناتجة من التلف في المرافق العامة مثل الطرق والأرصفة والإشارات المرورية والسياجات المعدنية والأشجار وغيرها، وكذلك الرواتب التي تصرف لأسرة المتوفى والمصاب وغير ذلك مما يشكل مجموعة أكثر من ثمانية عشر مليار ريال سنويًّا، وبيَّنت الدراسة أنه خلال الخمسة والعشرين عامًا الماضية وصل عدد القتلى في الحوادث المرورية ما يقارب خمسة وستين ألف قتيل ونصف مليون جريح، واعتمدت هذه الدراسة على الإحصائية الرسمية للإدارة العامة للمرور وإحصائيات المستشفيات والجهات الحكومية ذات العلاقة بموضوع الدراسة، وأضافت الإحصائية إلى أن عدد المخالفات في العام الماضي وصلت إلى مليون ونصف مليون مخالفة كان أكثرها يتعلق بتجاوز السرعة القانونية وتجاوز الإشارة الضوئية. انتهى.
فيا لهول ما قرأنا ورأينا وسمعنا، إن لغة الأرقام حين تنطق تذهل السامع وتخرس المجادلين لا سيما إن كانت من قوم صادقين ولا مصلحة لهم في الكذب والتزوير قريبًا من أربعة آلاف قتيل وأكثر من واحد وثلاثين ألف جريح كلهم حصاد مائة وثلاث وعشرين ألف حادث سيارة في عام واحد، خمسة وستون ألف قتيل وأكثر من نصف مليون جريح حصاد ربع مليون قرن مضت، ثمانية عشر مليار ريال التكلفة السنوية لحادث السيارات، ثلث أسرة المستشفيات يرقد عليها ضحايا حوادث السيارات، يا لهول الأرقام وضخامتها، ويا ويحنا ونحن نجني مغبتها لو شئت لأقسمت بارًّا غير حانث أنه ما من أحد من الحاضرين معنا الآن إلا وله قريب أو حبيب أو صديق أو نسيب أو معرفة ذهب ضحية حوادث السيارات، إما بموت أو إعاقة أو جراحة أو خسارة في نفسه أو ماله، فهلا كان ذلك باعثًا لنا على التأمل والاعتبار؟! إلى هذا الحد تساهلنا بأرواحنا في هذا المضمار.
لقد جاد أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- بأنفسهم عن طوع واختيار لا عن كره واضطرار، ولكن في غير هذا المضمار بل في نصرة العزيز الجبار حين ناداهم بقوله سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 111]، وبقوله سبحانه: (انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) [التوبة: 41]، فنفروا في سبيل الله مجاهدين، ولشرعه ناشرين، وعن دينه ذابِّين، (فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [آل عمران: 146]، والله يحب الصابرين، كانت الحسرة تأخذ أحدهم أن لا يكون قتل في أرض المعركة شهيدًا، وما ذاك إلا لأن أهدافهم واضحة وغايتهم نبيلة وسعيهم مشكور وعملهم مبرور في مجاهدة كل كفور، فكان واحدهم:
يجود بالنفس إن ضن البخيل بها *** والجود بالنفس أغلى غاية الجود
فقاتلوا وقتلوا وصابروا وصبروا، ولولاهم ما كان في الأرض مسلمون.
جاهدوا مع نبي الله -صلى الله عليه وسلم- عشرة أعوام في أرض المعارك، وقتل منهم في سبيل نشر الدين وإعلاء كلمة الله عدد كبير، لكنهم أقل من حوادث السيارات في أعوام عشرة في بلد واحد من بلاد المسلمين اليوم، إن ضحايا غزوة بدر وأحد والخندق -وهي من معارك الإسلام الفاصلة- لا يتجاوزون مائة شهيد عامتهم في أحد، وهم سبعون شهيدًا، فبدر يوم الفرقان يوم التقى الجمعان، وأُحُد تلك المدرسة الإيمانية والعسكرية والتربوية العظيمة، أنزل الله في شأنها تسعة وخمسين آية، والخندق التي قال النبي -صلى الله عليه وسلم- بعدها: “اليوم نغزوهم ولا يغزونا”. كل أولئكم لا يتجاوز حصيلة شهدائها مائة شهيد، ومثلها فتح مكة، وغيرها كثير.
إن أول درس يجب أن نعيه من هذه الأرقام هو أننا أحيانًا نستكثر حين نُدعى للإنفاق، نستكثر الإنفاق لنصرة الدين، الإنفاق بكل معانيه، إنفاق الوقت وإنفاق النفس وإنفاق الجهد وإنفاق المال: (هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد: 38]، نستكثر الإنفاق حين نُدعى إليه ونشح ونبخل، ذاهلين أن ما قدر الله ذهابه منك فهو ذاهب، شئت أم أبيت، فخير لنا أن نبادر بالبذل والعطاء من أموالنا وأنفسنا وجهدنا وعلمنا ومالنا، وكل ما منّ الله به علينا لنصرة هذا الدين وإعلاء كلمته ونشره لأهل الأرض قاطبة، فهو خير لنا في دنيانا وأخرانا.
ودرس آخر ينبغي أن نعيه ونتساءل: لماذا كل هذه الأرقام وكل هذه الضحايا؟! ومن المتسبب فيها؟! وهل المتسبب يأثم عند الله إثم قاتل النفس الوارد في قوله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) [النساء: 93]؟! وفي قوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: “لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم”، وفي رواية: “لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مؤمن من غير حق”.
وفي قوله -صلى الله عليه وسلم- فيما صح عنه: “لو أن أهل السماء والأرض اشتركوا في دم مؤمن لكبهم الله -عز وجل- في النار”، وهل من تسبب في قتل نفسه يلحقه الإثم الوارد في قوله -صلى الله عليه وسلم-: “من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا”.
وهل من قُتل في هذه الحوادث مظلومًا بخطأ مروري اقترفه غيره هل يشمله قوله -صلى الله عليه وسلم- حين عد الشهداء من أمته وذكر منهم بقوله: “والهدم شهيد”، وفي رواية: “وصاحب الهدم شهيد”، ومهما يكن من شيء فإن الذي ينبغي أن نعيه ويعيه كل مسلم عاقل هو مسؤوليته أمام الله عن نفسه التي بين جنبيه، إن نفسك -يا عبد الله- أمانة عندك لا يحل لك إزهاقها، فمن فعل فقد أتى جرمًا عظيمًا ينال عليه في الآخرة عذاب أليمًا إلا أن يتوب الله عليه، ونفس غيرك عليك حرام: “إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا هل بلغت؟! اللهم فاشهد”، أي والله لقد بلّغ ولكن أين من يتعظ، صح عنه -صلى الله عليه وآله وسلم-: “لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة”. هذا في النفس، أما المال فهو حرام، صح عنه –صلى الله عليه وسلم-: “لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه”، فتأمل -يا عبد الله- كم من الآثام ستجني حين تفرط في أسباب السلامة، فينتج من تفريطك قتل نفس بغير حق، أو إتلاف للأملاك أو الأموال الخاصة أو العامة، وكلها مما حرم الله إتلافه بغير حق، وكم من الحسرة ستلاحقك طوال حياتك إن كان قلبك حيًّا، حين تسبب في قتل عائل لأسرة كاملة ينتظره الشيخ الكبير والعجوز والطفل الصغير، فتكون سببًا في هلاكهم وحرمانهم باستهتارك أو تفريطك في الأخذ بأسباب السلامة، نعم إن ما قدره لابد أن يكون ولكن حين يقع القدر -وقد عملت الأسباب- يرحمك كل محب، ويشفق عليك كل صديق، ويعوضك الله خيرًا.
ولكن حين يقع القدر -وأنت مفرط بالأخذ بالأسباب- تكون موضع اللوم والعتب في الآخرة والأولى، إن الله -سبحانه وتعالى- حين قال: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ)، وقال: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا)، حين قال ذلك قال معه: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)، فلنعِ هذا جيدًا، ولنحذر التفريط فما ندم من عمل بالأسباب.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فيا عباد الله: إن عامة أسباب الحوادث يمكن تلافيها، فمنها تسليم السيارات لأطفال السن أو أطفال العقول، وقد رأينا هذا في هذه الأيام كثيرًا، يعبثون بها بالتفحيط والتطعيص وغيرها من الأسماء التي عبروا بها عن عبثهم واستهتارهم بأنفسهم وبالآخرين، فهلا حزمنا أمرنا وكنا صارمين مع من ولانا الله رعايتهم فنمنعهم من القيادة إن رأينا منهم عبثًا، ونسمح لهم بها إن آنسنا منهم رشدًا!!
ومن أسباب الحوادث: النعاس حال القيادة ثم النوم، وهو أمر ممكن تلافيه بالوقوف والنوم ثم الاستيقاظ وإكمال المسير، ولكننا كثيرًا ما نتساهل في الجرم مع أنفسنا في هذا الأمر فتقع أمور شنيعة وحوادث مريعة كان في وسعنا تلافيها لو أخذنا بأسباب السلامة.
ومن أسباب الحوادث: السرعة الزائدة عن حد السيطرة على المركبة، ولست أريد تحديد رقم معين للسرعة، فلكل مقام مقال، ولكل مركبة حد، ولكل سائق قدرة، ولكن ينبغي في كل حال أن نلتزم بالسرعة المحددة، فهي أسلم إن شاء الله.
ومنها: الصيانة الدورية للمركبة وتعاهدها وتعاهد إطاراتها وعامة أمورها، فهو أدعى للسلامة من الحوادث.
ومنها: الالتزام بالإشارات المرورية، فما وُضعت إلا لضبط السير وتلافي الحوادث، وأكثر الحوادث بسبب تجاهلها أو تجاوز السرعة المعقولة.
وأسباب السلامة كثيرة، وأصحاب الاختصاص من رجال المرور وغيرهم يعرفون منها ما لا نعرف، ويرشدون بما يرون أنه أدعى لإبعاد الناس على الحوادث ومن طلب أسباب السلامة وجدها، والعاقل من وعظ بغيره.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
………………………………………
منقول : ملتقى الخطباء – ركن الخـــطب