تحتفل سلطنة عُمان ـ ممثَّلةً في الإدارة العامَّة للمرور وإدارات وأقسام المرور في مختلف القيادات الجغرافيَّة بالمحافظات ـ مع شقيقاتها دوَل مجلس التَّعاون لدوَل الخليج العربيَّة بأسبوع المرور الخليجي المُوَحَّد والَّذي جاء بشعار «قيادة بِدُونِ هاتف» بهدف نشْرِ الوعي بمخاطر استخدام الهاتف النقَّال في أثناء السِّياقة وتعزيز سلوكيَّات السِّياقة الآمنة، وتشير مؤشِّرات الحالة المروريَّة في سلطنة عُمان إلى أنَّه رغم الانخفاض الَّذي شهدته أعداد الحوادث المروريَّة في سلطنة عُمان في الفترة )2017- 2021) إلَّا أنَّها عاودت الارتفاع لِتصلَ إلى (1539) حادثًا مروريًّا في عام 2021م، بنسبة (14.8%) مقارنةً بالعام 2020، كما ارتفعت أعداد الحوادث المروريَّة في عام 2022 حيث بلغ إجمالي الحوادث المروريَّة (1900) حادث مروري وبنسبة (22%) مقارنة بعددها في عام 2021، وأظهرت إحصائيَّات المنظومة المروريَّة لعام 2022 إلى أنَّ (2600) فرد إجمالي عدد ضحايا الحوادث المروريَّة بعدد بلغ (532) وفاة، وإصابة (2,080)، مرتفعا بنَحْوِ (27%) مقارنة بالعام 2021.
وبالتَّالي ما يعنيه ذلك من أنَّ الحالة المروريَّة ما زالت تعيش هواجس مقلقة وتُشكِّل رقمًا صعبًا ومصدر قلق مُجتمعي وعلى المستوى الوطني والإقليمي والدولي، وما زالت حوادث السَّير المُميتة مُهدِّدة لأجيال الوطن وشبابه وفلذات أكباده، ما يؤكِّد اليوم الحاجة إلى تكاتف الجهود وتكامل الأُطر وتقاسم المسؤوليَّات، وتكوين الشعور الجمعي المشترك في اتِّخاذ إجراءات عمليَّة واضحة في سبيل الحدِّ مِنْها، ولعلَّ ما يقدِّمه أسبوع المرور الخليجي المُوَحَّد من فرص وممكنات وحوارات وشراكات محطَّة مُهِمَّة في الحدِّ من الحوادث المروريَّة، يضاف إلى الجهود الوطنيَّة والَّتي يجسِّدها الاحتفال بيوم السَّلامة المروريَّة؛ باعتبارها محطَّات مُهِمَّة لقراءة المشهد المروري من جديد، وتشكيل الوعي الجمعي، وترسيخ روح المبادرة المروريَّة المُجتمعيَّة، وتعميق الحسِّ المروي المسؤول، وتأصيل قواعده وأخلاقيَّاته وفلسفة عمله في استخدام الطريق، بما تحمله من موجِّهات وفرص، ومحطَّات أمل وتأمل، فرصة لالتقاط الأنفاس لعمل مروري واعد، وسياسات مروريَّة مُوَحَّدة ومُتجدِّدة تأخذ في الحسبان كُلَّ المتغيِّرات والظواهر السلبيَّة الَّتي باتَتْ تشوِّه المشهد المروري وترفع سقف الحوادث المروريَّة.
وعلى الرّغم من أنَّ المؤشِّرات المروريَّة في كُلِّ دوَل العالَم ومِنْها سلطنة عُمان تشير إلى أنَّ السُّرعات الزائدة والجنونيَّة هي السَّبب المباشر في أغلب الحوادث المروريَّة وخصوصًا المُميتة مِنْها، وذات الإصابات الخطرة، وأنَّ بقيَّة العوامل والأسباب تُشكِّل النِّسبة الأخرى، حيث تُشير إحصائيَّة المنظومة المروريَّة في سلطنة عُمان إلى أنَّ (53%) من الحوادث المروريَّة في عام 2022م، سببها السُّرعة بَيْنَما تُشكِّل العوامل الأخرى (47%)، ورغم أنَّ الإحصائيَّات المروريَّة في معرض إشارتها إلى أسباب الحوادث المروريَّة لَمْ تذكر استخدام الهاتف النقَّال كسبَبٍ مباشر ضِمْن التَّصنيف، فمثلًا الإحصائيَّة المروريَّة لعام 2021 في سلطنة عُمان والَّتي بلغت (1539) حادثًا مروريًّا، رتّبت أسباب الحوادث المروريَّة وتوزيعها على أعداد الحوادث المروريَّة كالآتي: السُّرعة (820)، سوء التصرُّف (282)، الإهمال (153)، عدم ترك مسافة الأمان (122)، التجاوز(56)، عيوب في المَركبة (41)، أخرى (65)، حيث يلاحظ بأنَّها لَمْ تُشرْ إلى استخدام الهاتف بصورة مباشرة، رغم أنَّ الواقع الفعلي يقول بأنَّ استخدام الهاتف النقَّال يُشكِّل السَّبب الرئيس الَّذي قَدْ يفوق السُّرعات، خصوصًا في ظلِّ الازدحام المروري، ووجود أجهزة ضبط السُّرعة المنتشرة في شوارع محافظة مسقط ومختلف الشوارع بالمحافظات، والانتشار الكثيف والمستمرِّ للدَّوْريات المروريَّة، واستخدام أجهزة ضبط السُّرعة السيَّارة والمتنقِّلة دُونَ الاقتصار على أجهزة الضَّبط المروري الثَّابتة، وفي ظلِّ ارتفاع مؤشِّرات الحوادث المروريَّة المُميتة وذات الإصابات الخطرة والخفيفة على حدٍّ سواء، الأمْرُ الَّذي يضع الهاتف النقَّال واستخدامه، سواء في كتابة الرسائل النصيَّة والواتس أب أو مشاهدة الوسائط وفتحها، أو تقليب صفحات منصَّات التواصُل الاجتماعي والرَّد عَلَيْها أو الاستخدام المباشر للهاتف النقَّال في الاتِّصال بِدُونِ سمَّاعة أو بلوتوث؛ كُلُّ ذلك يجعل من أمْرِ الهاتف النقَّال السَّبب الرئيس للحوادث المروريَّة.
فإنَّ ما يؤكِّد أنَّ الهواتف النقَّالة باتَتْ تُشكِّل اليوم أحَد أهمِّ مسبّبات الحوادث المروريَّة، ما ورَد في تقرير منظَّمة الصحَّة العالَميَّة في حسابها الإلكتروني وتحت عنوان: الإصابات النَّاجمة عن حوادث المرور في الثَّالث عشر من ديسمبر لعام 2023 حيث أشار التقرير إلى وجود عدَّة عوامل تسبِّب الحوادث المروريَّة، ومن بَيْنِ هذه العوامل، القيادة بحالة ذهنيَّة مشتّتة، حيث أشار التقرير إلى ثمَّة أنواع عديدة من عوامل تشتيت الذِّهن الَّتي يُمكِن أن تتسببَ في اختلال القيادة. ويُمثِّل تشتُّت الانتباه النَّاجم عن استعمال الهواتف المحمولة مصدرًا متناميًا للقلق بشأن السَّلامة على الطُّرق.
وأنَّه من المرجَّح أن يتعرَّضَ السَّائقون الَّذين يستعملون الهواتف المحمولة للحوادث أكثر من غيرهم ممَّن لا يستعملونها بمقدار أربعة أضعاف تقريبًا.
فاستعمال الهاتف المحمول أثناء القيادة يبطئ ردود الأفعال (خصوصًا ردَّ الفعل المتمثل في الضَّغط على المكابح، بل أيضًا ردُّ الفعل إزاء الامتثال لإشارات المرور)، ويصعِّب على السَّائق إبقاء المَركبة سائرة في المسار الصَّحيح، والحفاظ على المسافات الصَّحيحة الفاصلة بَيْنَ المَركبات، وتُشير أيضًا إلى أنَّ الهواتف المستعملة من دُونِ حملها باليد ليست أكثر مأمونيَّة بكثير من أجهزة الهاتف المحمولة باليد.
وتزيد الرسائل النَّصيَّة إلى حدٍّ كبير من خطورة التعرُّض للحوادث. وكأنَّ هناك اتِّفاقًا عالَميًّا في هذه المسألة حيث تُشير الإحصائيَّات إلى أنَّ حالة عدم الانتباه تُشكِّل النِّسبة الأكبر في الحوادث المروريَّة، وأنَّ (94%) من الحوادث المروريَّة تأتي بسبب عدم الانتباه وأحَد عوامله الرئيسة هو الهاتف النقَّال.
هذا الأمْرُ يؤكِّد اليوم على أهمِّية إعادة مراجعة مسار تصنيف هذه الإحصائيَّات وإفراد الهاتف النقَّال في أيقونة خاصَّة أو كأحَد الأسباب المباشرة بما من شأنه أن يضعَ حدًّا لهذا الإهمال أو العناد أو الغفلة أو بأيِّ مُسمًّى يُمكِن تسميتُه ويعبِّر عن استخدام سائق المَركبة ومستخدم الطريق للهاتف النقَّال في أثناء القيادة.
إنَّ مسألة وضوح هذا السَّبب من شأنه أن يُعزِّزَ الوعيَ المُجتمعي ووعي مستخدم الطريق بمخاطر استخدام الهاتف، وهو أمْرٌ يتناغم مع الجهود الوطنيَّة والمبادرات النَّوْعيَّة الَّتي عملت الإدارة العامَّة للمرور على تنفيذها، وما اتَّخذته في سبيل ذلك من موجِّهات وإجراءات في الحدِّ من استخدام الهاتف النقَّال، سواء في تطبيق أحكام قانون المرور أو في اتِّزان وفاعليَّة الخِطاب المروري القائم تعظيم مساحة الثِّقة وترقية سلوك مستخدم الطريق وغرس ثقافة الإصلاح النَّابع من الذَّات والرّقابة الذَّاتيَّة والحسِّ الاستباقي الَّذي يسعى إلى جعل التَّغيير يبدأ من سائق المَركبة، وقَدْ نجحت الإدارة العامَّة للمرور في ذلك ممَّا لا يُمكِن حصره في هذا المقال.
وعودًا على بدء فإنَّه رغم ما أشَرنا إليه من عدم وضوح موقع الهاتف النقَّال صراحة في مؤشِّرات الرَّصد المروري، إلَّا أنَّه بالنَّظر إلى الأسباب الَّتي أشار إِلَيْها الرَّصد الإحصائي المروري في سلطنة عُمان فيما ذكرناه سابقًا، وبعد إزالة سبب السُّرعة، وعيوب في المَركبة، نجد أنَّ بقيَّة الأسباب تنطبق كلِّيًّا على استخدام الهاتف النقَّال في أثناء القيادة. فمثلًا سوء التصرُّف، إنَّما هو نتاج لعمليَّات ومسار غير متوقَّع أو مفاجئ يبقى مستخدم الطريق فيه غير قادر على التصرُّف وهو أمْرٌ يحدُث في أثناء استخدام الهاتف النقَّال فتفاجؤ قائد المَركبة وهو غير منتبه ومنشغل بالهاتف أنَّه أمام حادث أو ازدحام مروري مفاجئ، فيصطدم بمَن أمامه في ظلِّ عدم ترك مسافة الأمان، أو يصطدم بالحاجز الحديدي على أكتاف الطريق، وهي أمور تحصل بشكلٍ مستمرٍّ بسبب سوء التصرُّف النَّاتج عن الانشغال الذِّهني أو بالنَّظر إلى الهاتف، كما أنَّ الأسباب الأخرى المرتبطة بالإهمال وعدم ترك مسافة الأمان والتَّجاوز الخاطئ إنَّما هي نتائج عكسيَّة لانشغال سائق المَركبة ومستخدم الطريق بأمْرٍ ما أو غفلته عن الانتباه أمامه، فيظهر مِنْه تصرُّفًا عكسيًّا غير متوازن كردَّة فعل في غير حضرة الانتباه والتَّركيز، لذلك يبدو واضحًا أنَّ ما عدا عيوب المَركبة والسُّرعة والسُّكر أو الخمور؛ إنَّما يرتبط ارتباطًا كبيرًا بمسألة استخدام الهاتف النقَّال الَّتي تعني: الانشغال، وعدم الانتباه، وسوء التصرُّف، والتجاوز الخاطئ، والتشتُّت الذِّهني، وسرحان التَّفكير، والإهمال، وعدم المبالاة، وكلّ الصِّفات المشؤومة الَّتي يُمكِن أن يمارسَها قائد المَركبة وهي انعكاس لاستخدام الهاتف النقَّال.
وعَلَيْه، فإنَّ اختيار هذا الشِّعار إنَّما جاء تعبيرًا دقيقًا عن الحالة المروريَّة في أبعادها الوطنيَّة والإقليميَّة والدوليَّة، وهي بكُلِّ تجلِّياتها فرصة لعملٍ مشتركٍ في الحدِّ من استخدام الهاتف النقَّال في أثناء القيادة، والتَّفكير المبتكر من قِبل الشَّركات العالَميَّة في أجهزة الأمن والسَّلامة على الطريق في تبنِّي البرامج والآليَّات الَّتي تنبِّه السَّائق عِنْد استخدامه للهاتف النقَّال في أثناء السِّياقة أو استخدام أجهزة رصد مثبَّتة في الشوارع للكشفِ عن استخدام الهاتف النقَّال في أثناء القيادة، ومع كُلِّ ذلك ندرك أنَّ الجهود المقدَّمة في هذا الشَّأن كبيرة جدًّا والإجراءات المتَّخذة والتَّغليظ فيها، إنَّما هو نتاج لقراءة واقعيَّة للحوادث المروريَّة المؤلمة، فإنَّ نجاح هذه الجهود والحدَّ من هذا الاستهتار بالإنسان، يجِبُ أن يبدأَ من ضمير الإنسان سائق المَركبة ذاته وشعور بواجبه نَحْوَ نَفْسه وأهْل بيْتِه والنَّاس أجمعين، وأنَّ تصرُّفه هذا في استخدام الهاتف النقَّال وما يتبعه من إهمال وتجاوز وعدم انتباه وانشغال وتشتُّت للذِّهن إنَّما هو إجرام وانتحار واستهانة بالنَّفْس وإلقائها إلى التهلكة.
أخيرًا، يبقى شعار #قيادة_بدون_ هاتف، شعار أسبوع المرور الخليجي المُوَحَّد محطَّة مُهِمَّة لالتقاط الأنفاس وإعادة التفكير في الممارسات ورصد التحدِّيات، والوقوف على الثَّغرات والتَّفكير الجمعي في كيفيَّة الانتقال بهذه الشِّعار إلى الممارسة وتجسيده في سلوك سائق المَركبة ومستخدم الطريق، وكيف يُمكِن جعله منهج حياة؛ في ظلِّ ما باتَتْ يتركه استخدام الهاتف النقَّال لأيِّ غرضٍ كان في أثناء السِّياقة، من مآسٍ وفواجع وأحداث وحوادث مميتة وما باتَ ينتج عَنْها من وأدٍ لحياة الإنسان وإزهاق الأرواح البريئة، كم هي المآسي الَّتي باتت تفصح عنها حوادث السَّير، فقَدْ أهلكت الحرْث والنَّسل، وغيَّبت أطفالًا وشبابًا كانوا في سنِّ الزهور، حتَّى أفقدهم استخدام الهواتف النقَّال ولثوانٍ معدودة حياتهم، وفُجعت أُسر بأكملها بسبب تصرُّف سائق وعدم انتباهه نتيجة استخدامه للهاتف النقَّال، وعِنْدها ولاتَ حينَ مندم.